هـل تعود نابلس.. عاصمة اقتصادية؟!
بقلم: عبد الناصر النجار

ثلاثة مَشاهِد، تبدو وكأنّها مقتطعة من فيلم سينمائي طويل، عن مدينة نابلس.. مَشاهِد متناقضة، ولكنها تعطي صورة واضحة، وإنْ شابَها بعض التشويش..
المشهد الأوّل؛ في العام 2000 كنتُ في زيارة إلى نابلس، ليس للاستجمام أو التسوّق.. ولكن مع صديق كانت لديه سيّارة مرسيدس، يرغب في إصلاحها..
ابتداءً من مدخل بلدة حوّارة وحتى المقاطعة، كانت تنتشر عشرات ورشات ميكانيكا السيارات.. لقد وَصَلَتْ شهرة "الميكانيكي النابلسي" إلى كافة أرجاء فلسطين التاريخية.. ومئات السيارات كانت تصل يومياً إلى هناك، للإصلاح..
انتظَرَ صديقي أكثر من ساعتين أمام إحدى الوِرَش، حتى تمكّن من التحدّث لصاحبها.. لم يكن من وقت أمام الميكانيكي سوى دقيقة، ليقول لصاحب السيارة بعد "معاينتها": "إرجع بعد 4 ساعات وسيكون كل شيء على ما يرام".. بمعنى آخر؛ 6 ساعات لإصلاح عطل بسيط.. وقت غير معقول.. ولكن إنه ضغط العمل.. إنّه الاقتصاد المتحرّك بقوّته القصوى..
على امتداد أقلّ من كيلومترين، مئات الشبّان كانوا يعملون دون كَلَل، والزوّار القادمون من كل أرجاء الوطن للتسوّق من نابلس، ينتشرون في الشوارع والمطاعم والمقاهي.. وغالبية المتسوّقين والزائرين ينهون جولتهم بكمية من الحلويات النابلسية الشهيرة، وعلى رأسها "الكنافة"..
في تلك الفترة، أي بعد خمس سنوات من دخول السلطة، كانت نابلس فعلاً هي "العاصمة الاقتصادية".. وهو لقبٌ أطلقه عليها الرئيس الشهيد ياسر عرفات، خلال زيارته الأولى للمدينة..
في تلك الأثناء، كانت الشوارع مزدحمة.. والبلدة القديمة منتعشة.. والأسواق تجدد شبابها.. والأسعار هي الأرخص.. والخدمات كذلك الأجْوَد!!
المشهد الثاني؛ في نهاية العامة 2004، تكررت الزيارة من أجل اختيار ثلاثة مراسلين صحافيين في مكتب جريدة "الأيام" في نابلس.. الملاحظة الأولى، هي انقلاب المشهد الأول رأساً على عقب..!!
في الزيارة الأولى، كنتَ تحتاج إلى 45 دقيقة من وسط رام الله إلى نابلس، أو أقلّ من ذلك.. وعجباً، هذه المرّة لم تستغرق الرحلة سوى 4 ساعات متواصلة من السير في الطرق الترابية والجبلية الوعرة، لاجتياز حواجز الاحتلال؟!!
تنقّلنا في سيارات "مشطوبة".. لأنّه من المستحيل على سيّارة أجرة قانونية السير في هذه الطرقات الجبلية..!
عند مدخل حوّارة، هذه المرّة، لم تكن هناك ورشات ميكانيكا، أو مطاعم أو محلات تجارية مفتوحة.. الشارع الذي كان يدبّ بحياة عجيبة أصبح مواتاً.. وكأنّ كارثة طبيعية حلّت بالمنطقة.. وكلّما تعمّقتَ أكثر باتجاه مركز المدينة، ازداد المشهد سوداوية..!! حركة تجارية شبه مشلولة.. إلاّ ما اضطر أهالي المدينة والقرى المجاورة لشرائه من محلات المواد التموينية.. أمّا الزوّار والسيّاح، فلم يعد لهم وجود..!!
في البلدة القديمة، الحزن خيّم على أحيائها.. في كل حي أكثر من شهيد.. والمسلّحون ينتشرون في الشوارع.. لقد اختلط الحابل بالنابل.. اختلطت المقاومة بالفلتان.. ولم يعد المواطن قادراً على التمييز بين سلاح مناضل وسلاح مدّعي النضال..!
نابلس في هذه الفترة، كانت كالشاب الذي كبر فجأة بثلاثين عاماً.. لقد فقدت قوّتها الاقتصادية.. ووَهَنَت تجارتها.. وغادرها معظم أصحاب الورَش والمطاعم.. بحيث أعادوا فتح محلاتهم في رام الله وضواحي القدس..!
آلاف الموظفين الذين كانوا يعملون خارج المحافظة، استقروا في مناطق عملهم لعدم تمكنهم من التنقّل بسهولة.. لقد انتشرت الجريمة بكافة أشكالها.. والفلتان الأمني والاقتصادي والاجتماعي بدأ ينخر جسم العاصمة الاقتصادية، دون هوادة.. فزادها ضعفاً على ضعف..!!
المشهد الثالث؛ قبل أسبوع، كنتُ في نفس المدينة.. الانطباع الأوّل للمشهد كان كالذي في عينيه "غَبَش"، غير مصدِّقٍ للصورة الجديدة.. ورغم المنغِّص الأهم والأخطر في حياة المدينة، وهو حاجز حوّارة، الذي يعدّ الأسوأ في الضفة الغربية.. إلاّ أنّ هناك حياةً تدبّ.. وكأنّ غيثاً ما نزل على أرضها، فاهتزّت ورَبَت، ونَمَت البذرة الساكنة في الأرض البور وشبه الموات..
والإجراءات الأمنية الفلسطينية، التي اقتلعت شرور الفلتان وجذوره الشيطانية، ساهمت بشكل رئيسي في عودة المتسوّقين من المحافظة وخارجها، وإنْ كانت بوتيرة ضعيفة.. إلاّ أنّها تراكمية..
في المدينة، تشاهِد اليوم، حركة عمرانية نشطة.. وأحياءً جديدة تكبر بسرعة.. وعقارات يزداد سعرها بشكل لافت..
في البلدة القديمة.. حركة شرائية متوسطة.. ولكنها كالمريض الذي تعافى وخرج من غرفة الإنعاش.. إلى النّقاهة..
نابلس اليوم، أعادت نموّها.. وهي تنتظر مئات ملايين الدولارات التي وَعَد رجال الأعمال الفلسطينيون والعرب والأجانب، الذين سيشاركون في مؤتمرها الاستثماري، بضخّها في جسدها المُتعَب..
في نابلس القديمة، هناك فرصة ومتعة لمشاهدة واحدة من أقدم المدن العالمية.. وفرصة لرجال الأعمال والزوّار لقضاء ساعة أو ساعتين في قصباتها الضيّقة، وزيارة حمّاماتها التركية.. التي تعيد للجسد شبابه ونضارته.. ولا بأس في سماع مجموعة من "النّكات" النابلسية، كبهارٍ هندي على ضيافتها المميزة!!

a-najjar@al-ayyam.com